دراسات
إسلامية
نظرة
عابرة على مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسراياه
بقلم:
الشيخ أبي الخير عارف محمود
عضو هيئــة التصنيف والتاليف بالجامعة
الفاروقية كراتشي والأستاذ بها.
الكتابة في مجال التاريخ أمر مشوق،
ومُحبَّب للنفس خاصةً تاريخ الإسلام، الّذي يحكي أمجاد المسلمين الأوائل، وما
حقّقوه من انتصارات أبهَرَت العالم قديمًا وحديثًا، ألا! وإنّ قمّة ذلك التاريخ
وأعظم تلك الانتصارات هو ماكان في مغازي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وبعوثه
وسراياه، الّتي كان السلف الصّالح – رحمهم الله – يتواصون بتعلُّمها وتدارسها ودراستها.
فهذا «الزّهري» - رحمه الله – يقول: «في علم المغازي علم الآخرة والدّنيا»(1).
ألا! وقد بلغ من حرصهم على تعليم أولادهم
مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسراياه أنّهم جعلوها قرينة القرآن الكريم
من حيث أولوية التعليم. يقول «زين العابدين علي بن الحسين بن علي» - رحمهم الله -:
«كنا نُعلَّم مغازي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، كما نُعَلَّم السورة
من القرآن»(2). وعن «إسماعيل بن محمّد بن سعد بن أبي
وقّاص» - رحمه الله –
قال: «كان أبي يعلمنا المغازي، ويعُدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بنيّ هٰذه
ماٰثر اٰبائكم، فلا تضيعوا ذكرها»(3).
واعلم أن علم «التاريخ العسكري» من أجدر
فروع التاريخ بالدّراسة والتعمُّق والتحليل والعبرة، فكما أن جميع العلوم تسخر
الآن، لتكون معطياتها وسائل قتال بيد الجيوش، فالتاريخ العسكري أحد أبرز العلوم
الّتي تعلم كيفية استخدام تلك الوسائل المادية والمعنوية. وها نحن اليوم أحوج من السلف
إلى المغازي، تعليمًا وتدريبًا، فنحاول أن نعرف المغازي والسّرايا، لغةً
واصطلاحًا، وتذكر عددهما؛ لنتعرف على ماٰثر اٰبائنا هذه؛ ولئلا يضيع
ذكرها.
تعريف المغازي لغةً واصطلاحًا:
أ – الغَزْوَةُ: المرّة من الغَزْو، والإسم:
الغَزَاة، وجمع الغازي: غُزاة، وغُزًّى وغِزِيٌّ، والمَغْزَاة: موضع الغزو(4). وقال صاحب اللسان: «غزاه غزوًا، أراده
وطَلَبه وقَصَده»(5). وقال صاحب القاموس: «الغزوة ما غُزي
وطُلب»(6). وقال «الحافظ بن حجر» - رحمه الله -:
«المغازي جمع مغزى، يُقال: غزا يغزو غزوًا، وأصل الغزو القصد»(7).
السرية في اللّغة: بفتح المهملة وكسر
الرّاء وتشديد التحتية، هي الّتي تخرج باللّيل(8). وهي فعيلة بمعنى فاعلة، سُمِّيَتْ
سريةً؛ لأنّها تسري ليلاً في خفية؛ لئلا ينذربهم العدو، فيحذروا ويمتنعوا(9). قال «الشعراوي» في تفسيره: «إن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - كان يذهب مع المؤمنين في قتالهم، ويحضر معهم بعضًا من
أحداث القتال الّتي نُسميها غزواتٍ، أمّا البعثات القتالية الّتي لم يخرج فيها
الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان يكتفي فيها بإرسال عدد من المؤمنين، فقد
كانت تُسمّٰى سرايا، وهذه السرايا كانت لا تقلُّ عن عشرين مقاتلاً، ولا تزيد
على مئة، فذكرها الله تعالى مرّةً بالعشرين، ومرّةً بالمئة».
تعريف السريّة ووجه تسميتها: قال «ابن
الأثير»: «السرية الطائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مئة تُبعَث إلى العدو، وجمعها
السّرايا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر، وخيارهم من الشيء السري
النفيس»(10). ذكر «الحافظ ابن حجر»: «أنّها من مئة
إلى خمس مئة»(11). وذكر «ابن منظور والفيروز آبادي»: «أن
السرية ما بين خمس مئة أنفس إلى مئة»(12). وأمّا سرية «موتة»، فإن عدد أفرادها كان ثلاثة آلاف
رجل، وأخرج «البيهقي» عن مجاهد قال: قد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد
الله بن مسعود وخبابا سرية، وبعث دحية سرية وحده(13). فخلاصة الأقوال: أن السرية لايتجاوز
عددها أكثر من ثلاثة آلاف رجل، كما في سرية موتة، وليس في سيرة النبيّ - صلى الله
عليه وسلم - سرية بلغ عددها أكثر من ذلك، كما أنه ليس في سيرة النبيّ - صلى الله
عليه وسلم - حد أدنٰى للسرية، فقد تتكون السرية من رجل واحد فقط، وقد
جَمَعَها (أي المغازي والسرايا) «العلامة الزرقاني» رحمه الله – في تعريفٍ واحدٍ، فقال: «كل عسكر حضره
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، يُسمّٰى غزوةً، وما لم يحضره؛ بل أرسل
بعضًا من أصحابه إلى العدو، يُسمَّى سريةً أو بعثًا»(14).
تنبيه هام: اعلم أن المراد بلفظ «الغزوة والسرية»
عند المتقدمين من القرون الأولى المعنى اللّغوي، وهو: القصد والطلب، ولم يُفرِّقوا
بين اللفظتين من حيث اللّغة والاصطلاح. وأمّا المتأخرون فقد ذكروا تعريفًا
اصطلاحيًّا فقط، فرّقوا فيه بين الغزوة والسرية، فقالوا: «إن الغزوة هي الّتي
يحضرها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والسرية الّتي لم يحضرها النبيّ - صلى الله
عليه وسلم -، كما مرّ».
عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان عدد مغازي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - الّتي غزا بنفسه سبعًا وعشرين غزوةً، وكانت سراياه الّتي بعث بها سبعًا
وأربعين سريةً، وكان ما قاتل فيه من المغازي تسع غزوات: بدر وأحد والمريسع والخندق
وقريظة وخيبر وفتح مكّة وحنين والطّائف. قال «ابن إسحاق وابن سعد وابن حزم وابن
الأثير» - رحمهم الله - «قاتل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في تسع غزوات: بدر
وأحد والخندق وقريظة والمصطلق – وهي المريسيع – وخيبر والفتح وحنين والطّائف. ويُقَال:
إنّه - صلى الله عليه وسلم - قاتل أيضًا في بني النضير ووادي القرى والغابة». وقال
«ابن عقبة»: «قاتل في ثماني مواطن، وأهمل عد قريظة؛ لأنّه ضَمَّها إلى الخندق؛
لكونها كانت في إثرها، وأفردها غيره؛ لوقوعها منفردةً بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع
لغيره، عدّ الطّائف وحنينًا واحدةً؛ لكونها كانت في إثرها»(15). قال «الإمام النووي» - رحمه الله -: «قد
اختلف أهل المغازي في عدد غزواته - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، فذكر بن سعد
وغيره عددَهُن مفصَّلات على ترتيبهن، فبلغت سبعًا وعشرين غزاةً، وستًّا وخمسين
سريةً؛ قالوا: قاتل في تسع من غزواته، وهي: بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة
وخيبر والفتح وحنين والطائف، هكذا عدّوا الفتح فيها؛ وهذا على قول من يقول:
«فُتِحَت مكة عَنْوةً، وقد قدّمنا بيان الخلاف فيها، ولعلّ بريدة أراد بقوله قاتل
في ثمان أسقاط غزاة الفتح، ويكون مذهبه أنها فُتِحت صلحًا، كما قاله الشافعي»(16).
قال
«العلامة العيني» - رحمه الله -: «واختلف في عدد غزوات النبيّ، فقال يعقوب بن
سفيان بإسناده عن مكحول أن رسول الله غزا ثماني عشرة غزوةً، وقاتل في ثماني غزوات:
أولهن بدر، ثمّ أحد، ثمّ الأحزاب ثمّ قريظة ثم بئر معونة ثم غزوة بني المصطلق من
خزاعة ثم غزوة خيبر ثم غزوة مكة ثم حنين والطائف»؛ قال «ابن كثير»: «قوله إن بئر
معونة بعد بني قريظة، فيه نظر، والصحيح أنها بعد أحد»، وعن «الزهري» قال: «غزا
رسول الله أربعًا وعشرين غزوةً، رواه الطّبراني»، وروى عبد بن حميد في مسنده عن
جابر قال: «غزا رسول الله إحدى وعشرين غزوةً»، وقال ابن إسحاق: «جميع ما غزا رسول
الله بنفسه الكريمة سبع وعشرون غزوةً»، وعن قتادة: «أن مغازي رسول الله وسراياه
ثلاث وأربعون، أربع وعشرون بعثًا، وتسع عشرة غزوةً، وخرج في ثمان منها بنفسه»؛
وقال «ابن إسحاق»: «بعوثه وسراياه ثمانية وثلاثون، وقال «صاحب التلويح»: «غزوات
النبيّ وسراياه نَيَّفَتْ على المئة ما بين غزوة وسرية»(17).
قال «الحافظ بن حجر» - رحمه الله - :
«أمّا البعوث والسرايا فعد بن إسحاق ستًا وثلاثين، وعد الواقدي ثمانيًّا وأربعين،
وحكى بن الجوزي في التلقيح ستًا وخمسين، وعد المسعودي ستين، وبلغها شيخنا في نظم
السيرة زيادةً على السّبعين، ووقع عند الحاكم في «الإكليل» أنها تزيد على مئة،
فلعله أراد ضمّ المغازي إليها»(18). وقال أيضًا: وأمّا السّرايا فتقْرُبُ من سبعين، وقد
استوعبها «محمد بن سعد» في الطبقات، وقرأت بخط مغلطاي، أن مجموع الغزوات والسرايا
مئة، وهو كما قال، والله أعلم(19).
قال «ابن
هشام» - رحمه الله -: «وكان جميع ما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه سبعًا وعشرين غزوةً، منها غزوة ودان، وهي
غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوي، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة
بدر الأولى يطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الّتي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم
غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب، ثم غزوة
غطفان، وهي: غزوة ذي أمر، ثم غزوة بحران معدن بالحجاز، ثم غزوة أحد ثم غزوة حمراء
الأسد ثم غزوة بني النضير ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة ثم غزوة
دومة الجندل ثم غزوة الخندق ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان من هذيل ثم غزوة
ذي قرد ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة ثم غزوة الحديبية، لا يريد قتالاً، فصدّه
المشركون، ثم غزوة خيبر ثم غزوة القضاء، ثم غزوة الفتح ثم غزوة حنين ثم غزوة
الطائف ثم غزوة تبوك؛ قاتل منها تسع غزوات: بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق
وخيبر والفتح وحنين والطائف؛ وكانت بعوثه - صلى الله عليه وسلم - وسراياه ثمانيًا وثلاثين من بين بعث وسرية، غزوة
عبيدة بن الحارث أسفل من ثنية ذي المروة، ثم غزوة حمزة ابن عبد المطلب ساحل البحر
من ناحية «العيص»، وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة وغزوة سعد بن أبي
وقاص الخزار، وغزوة عبد الله بن جحش نخلة وغزوة زيد بن حارثة القردة، وغزوة محمد
ابن مسلمة كعب بن الأشرف، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرّجيع وغزوة المنذر بن
عمرو بئر معونة، وغزوة أبي عبيدة بن الجراح ذي القصة من طريق العراق، وغزوة عمر بن
الخطاب تربة من أرض بني عامر وغزوة علي بن أبي طالب اليمن وغزوة غالب بن عبد الله
الكلبي كلب ليث بالكديد؛ فأصاب بني الملوح»(20).
قال «المسعودي»: «وأرى أن السبب الذي أوجب
هذا التنازع المتفاوت في أعداد هذه السرايا أن منهم من يعتدُّ بسرايا لا يعتد بها
آخرون، وذلك أنه كانت سرايا في جملة «مغازٍ» فأفردها بعضُهم واعتدَّ بها، وبعضٌ
جعلها في جملة تلك المغازي؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وجّه في كثير
من غزواته سرايا إلى ما يلي البلاد الّتي حلَّها بعد عزيمة المشركين بخيبر في
الطلب على ما قدمنا، ووجه بعد فتح مكة سرايا لهدم الأصنام الّتي حول مكة، فوقع هذا
التنازع لأجل ذلك»(21).
وقال البعض: «إن السرايا والبعوث
النبوِيَّة لو حُصِرت كلُّها لفاق عددها العددَ الّذي ذكره أهل المغازي وغيرهم
بكثير؛ وذلك أنّه كانت هنالك سرايا وبعوث الأغراض غير قتالية، فكانت هناك سرايا
وبعوث لجباية الزكاة، وأخرى لتنفيذ الحدود، وبعوث قضائيَّة، وأخرى تعليمية،
ودَعَوِيَّة وغير ذلك، والكثير من السرايا المبهمة المنثورة بين طيات كتب الحديث،
وكتب معاجم الصحابة، ومعاجم البلدان، والمعاجم اللغوية وغيرها»(22).
أيُّها الإخوة المجاهدون! هذه نظرة على
مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، فَلْنَغْتَنِمْها
وَلْنَتَّخِذْها جنةً لقضايانا، والخبير بأوضاع الأمّة الإسلامية يعرف أن ما
أحوجنا اليوم ونحن نسير على درب الهُدى والجهاد في سبيل الله مع قلّة الناصر،
واعتزاز الظالم، وأن نعتزَّ بهذه الشعيرة العظيمة الجهادية، وشعيرة الدعاء
واستغاثة الله السميع القريب، ليحكم بيننا وبين قومنا بالحقّ، وهو خير الحاكمين،
أعاننا الله وإيّاكم على القول بالعمل، وعلى النُّصح بالقبول. وحسبنا الله وكفى،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلم.
* * *
الهوامش:
(1)
الجامع لأخلاق الراوي واداب
السامع، 2/195.
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق.
(4)
النهاية لابن الآثير، 3/366.
(5)
لسان العرب، مادة: غزا.
(6)
القاموس المحيط: غزا.
(7)
فتح الباري، 6/279.
(8)
المصدر السابق، 8/56.
(9)
لسان العرب، مادة: سرا.
(10)
النهاية، 2/363.
(11)
فتح الباري، 8/56.
(12)
اللسان والقاموس، مادة: سرا.
(13)
السنن الكبرى، 9/100.
(14)
شرح المواهب اللدنية، 1/387.
(15)
سبل الهدى والإرشاد، في سيرة خير
العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، 4/8.
(16)
شرح النووي على صحيح مسلم، باب
عدد غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(17)
عمدة القاري، باب كم غزا النبيّ -
صلى الله عليه وسلم - .
(18)
فتح الباري، كتاب المغازي، باب
غزوة العشيرة.
(19)
فتح الباري، قوله باب كذا.
(20)
السيرة النبوية لابن هشام.
(21)
التنبيه والأشراف: 278-279.
(22)
السرايا والبعوث النبوية حول
المدينة ومكة، 1/60.
* * *
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربیع
الثانی 1435هـ = فبرایر 2014م
، العدد : 4 ، السنة : 38